دخلت الحرب الأوكرانية منعطفاً حاسماً ربّما يكون الأخطر منذ اندلاع القتال قبل أربع سنوات، وذلك في ظلّ تشابك الضغوط العسكرية الروسية، مع أخرى ديبلوماسية أميركية، والذي توازيه مساعٍ أوروبية محمومة لتأمين مظلّة مالية لكييف قبل فوات الأوان. ويواجه الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، ما وصفته مصادر غربية بـ«أيام الحسم»، بعد إنذاره أميركيّاً بضرورة القبول بتسوية سياسية قبل حلول عيد الميلاد، في وقت يسابق فيه الاتحاد الأوروبي الزمن، لفرض أمر واقعٍ مالي عبر الأصول الروسية المجمّدة، بتجاوز «فيتو» المجر وتحفّظات أميركية محتملة وتمنُّع باريس عن شمول ما تحتجزه من تلك الأصول في بنوكها.
ووسط استعجال الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عقد تسوية، نقلت إدارته رسالة واضحة إلى القيادة الأوكرانية، مفادها بأنّ الوقت ينفد. ووفقاً لمسؤولين مطّلعين على المحادثات بين الجانبَين، فقد حمل المبعوث الخاص لترامب، ستيف ويتكوف، وصهره جاريد كوشنر، هذا الإنذار مباشرةً إلى زيلينسكي، السبت الماضي، وهو عبارة عن مهلة زمنية لا تتجاوز الأيام، لتبادر كييف إلى الموافقة على مقترح التسوية المطروح. ووفقاً للتفاصيل المسرّبة، فإنّ الجدول الزمني الذي وضعه البيت الأبيض، يهدف إلى إعلان اتفاق لوقف إطلاق النار بحلول عيد الميلاد؛ علماً أنّ مشروع المطروحة يتضمّن تنازل أوكرانيا عن جزء كبير من أراضيها، في مقابل حصولها على «ضمانات أمنية أميركية» لا تزال غير محدّدة المعالم. وفي ضوء ما تقدّم، يجد المفاوضون الأوكرانيون أنفسهم، عالقين بين مطالب إقليمية يستحيل قبولها سياسيّاً، وبين إدارة أميركية لا يمكن رفض طلباتها في ظلّ الاعتماد – شبه الكلّي – العسكري عليها.
ورغم الضغوط، أشار زيلينسكي إلى تحقيق بعض التقدُّم في تعديل الخطّة الأميركية الأصلية (28 بنداً)، التي تضمّنت صيغاً وصفها بأنها «معادية لأوكرانيا». وبينما تقلّصت الخطّة إلى 20 بنداً، لا يزال جوهر الخلاف المتّصل بمسألة الأراضي يشكّل عقبة كبيرة. وأشار الرئيس الأوكراني، في حديث إلى الصحافيين عبر تطبيق «واتسآب»، إلى أنّ الأميركيين يبحثون عن تسوية سريعة، مؤكّداً حاجته إلى التشاور مع الحلفاء الأوروبيين لتجنّب تصدُّع الوحدة الغربية إذا ما مضت واشنطن منفردة في ذلك الاتجاه.
وتتساوق الضغوط الديبلوماسية على كييف، مع واقع عسكري قاتم تعيشه القوات الأوكرانية على الأرض، بعدما صعّدت القوات الروسية هجماتها على البنية التحتية للطاقة، محقّقة في الوقت نفسه مكاسب ميدانية في الجنوب الشرقي للبلاد. وتتركّز العمليات الروسية، حالياً، في منطقة دونيتسك، التي تضغط واشنطن وموسكو على كييف للتنازل عنها كجزء من الصفقة، فيما تشير التقارير الميدانية إلى إحكام القوات الروسية سيطرتها على أجزاء واسعة من بوكروفسك الاستراتيجية، واقترابها من مدينة ميرنوغراد. ويحمل سقوط هاتَين المدينتَين دلالات خطيرة؛ إذ سيوجّه ضربة قاصمة إلى معنويات كييف، ويمنح الجيش الروسي منصّة انطلاق لشنّ هجمات في عمق المنطقة. ومن جهتهم، اتّهم مسؤولون أوكرانيون، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بتقديم ادّعاءات كاذبة لترامب، حول السيطرة الكاملة على هذه المدن لإقناعه بأنّ الجيش الروسي قوّة لا يمكن إيقافها، وهو ما تماهى معه الرئيس الأميركي في مقابلته التلفزيونية الأخيرة، حين اعتبر أنّ زيلينسكي «يخسر» وعليه «القبول بالأمر الواقع».
تسعى بعض الدول الأوروبية إلى تمرير قرار سريع يقضي بتجميد الأصول السيادية الروسية «إلى أجل غير مسمّى»
وعلى البرّ الأوروبي، يخوض بيروقراطيّو بروكسل، معركة لا تقلّ ضراوة، ولكنها ذات طابع مالي وقانوني؛ إذ تسعى بعض الدول الأعضاء، بقيادة ألمانيا، إلى تمرير قرار سريع يقضي بتجميد الأصول السيادية الروسية «إلى أجل غير مسمّى»، وذلك في محاولة استباقية لقطع الطريق على «فيتو» متوقّع من رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، قبل قمّة القادة الأوروبيين المقرّرة الأسبوع المقبل. وتتمحور الخطّة الأوروبية حول تفعيل «المادة 122» من معاهدات الاتحاد، والتي تمنح صلاحيات طوارئ للتعامل مع الأزمات الاقتصادية وتسمح بتجاوز مبدأ الإجماع (الفيتو)، والاكتفاء بالأغلبية. ويهدف هذا التحرّك إلى خلق ورقة ضغط أوروبية في مفاوضات السلام التي تقودها الولايات المتحدة، وضمان تدفّق الأموال إلى أوكرانيا؛ علماً أنّ المعركة هي على مبلغ ضخم قيمته 210 مليارات يورو من الأصول الروسية المجمّدة التي اقترحت المفوضية الأوروبية استخدامها كضمانة قرض لكييف بقيمة تصل إلى 90 مليار يورو على مدى العامين المقبلين. وتكمن المعضلة في أنّ آلية العقوبات الحالية تتطلّب تجديداً دوريّاً كل ستة أشهر بإجماع الدول الـ27، وهو ما يستخدمه أوربان ورقة مساومة دائمة، ويهدّد به الآن لعرقلة التمويل، متماشياً في سلوكه هذا مع رغبة إدارة ترامب التي قد تقرّر رفع العقوبات المفروضة على روسيا بشكل أحادي.
ويواجه مخطّط «السطو» الأوروبي تعقيدات تقنية وقانونية داخلية، إذ تظهر بلجيكا، التي تحتضن مؤسسة «يورو كلير» – تحتفظ بـ185 مليار يورو من مجموع هذه الأصول -، كطرف معنيّ ومتوجّس من المخاطر؛ وهي تعارض تحمّل العبء القانوني والمالي وحدها في حال رفع العقوبات ومطالبة روسيا بالتعويضات، فيما تطالب بضمانات حديدية بتوزيع المخاطر على جميع الدول الأعضاء. وبالتوازي، تتزايد الضغوط على فرنسا للإفصاح عن تفاصيل أصول روسية بقيمة 18 مليار يورو محتجزة في مصارف تجارية فرنسية، وهو ما ترفضه باريس متذرّعة بـ«سرّية العملاء». وتعتبر هذه الأموال ثاني أكبر كتلة أصول مجمّدة في أوروبا، في حين تصرّ بلجيكا على ضرورة شمولها في أيّ آلية قرض، وذلك لضمان العدالة وتوزيع المخاطر.
على أنّ التطوّرات المتسارعة لم تقتصر على الكواليس، بل انفجرت علناً في حرب كلامية عكست عمق الهوّة بين واشنطن وحلفائها التقليديين. إذ شنّ الرئيس الأميركي هجوماً لاذعاً على القادة الأوروبيين، واصفاً إيّاهم بـ«الضعفاء» الذين «لا ينتجون شيئاً»، ومعتبراً أنّ القارة تواجه «اندثاراً حضارياً» بسبب سياسات الهجرة. وأثارت تصريحاته تلك، المشمولة في وثيقة الأمن القومي، ردود فعل غاضبة في أوروبا؛ ففي ألمانيا، خرج المستشار فريدريش ميرتس، عن الديبلوماسية المعهودة، واصفاً أجزاء من الوثيقة الأميركية بأنها «غير مقبولة»، ومؤكّداً أنّ أوروبا ستتدبّر أمر حماية ديموقراطيّتها بنفسها إذا لزم الأمر، ومذكّراً واشنطن بأنّ «أميركا أولاً لا تعني أميركا وحدها». من جانبه، طالب رئيس المجلس الأوروبي، أنطونيو كوستا، الرئيس الأميركي بإظهار شيء من «الاحترام»، مشدّداً على ضرورة التعامل بين الحلفاء بنديّة واحترام الخيارات الديموقراطية للشعوب.
وفي ظلّ هذه الأجواء المشحونة، جاء اجتماع لندن الإثنين الماضي، الذي ضمّ زيلينسكي ونظراءه من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، في محاولة لتوحيد الصف الأوروبي وتنسيق المواقف قبل الردّ على المقترح الأميركي للتسوية. وأعرب الرئيس الأوكراني، في أثناء الاجتماع، عن مخاوفه العميقة من أن يتخلّى الاتحاد عن خطّة «قرض التعويضات»، خشية إغضاب واشنطن التي كان نصح مسؤولوها، العواصم الأوروبية بعدم التصرّف بالأصول الروسية قبل التوصّل إلى خطّة سلام. ويرى زيلينسكي أنّ أيّ تراجع أوروبي عن الدعم المالي سيتركه مكشوفاً تماماً أمام الضغوط الأميركية للقبول بتسوية مجحفة.
هكذا، يقف الغرب الأوروبي أمام مفترق طرق تاريخي: إمّا الرضوخ لجدول ترامب الزمني وقبول سلام الأمر الواقع الذي يكرّس السيطرة الروسية، أو المخاطرة بصدام ديبلوماسي واقتصادي كبير عبر الأطلسي.
سباق مع الزمن على جانبَي الأطلسي
14 كانون الأول/ ديسمبر 2025: الموعد النهائي غير الرسمي لتقديم كييف ردّها على «إنذار ترامب»، أي مقترح التسوية المؤلّف من 20 بنداً بعد التعديل.
11-14 ديسمبر 2025: في أثناء هذه المدّة، ستجري مداولات محمومة لتفعيل آلية الطوارئ الأوروبية لتجميد الأصول الروسية، وذلك بغرض تجاوز فيتو مجَري محتمل و«تحصين» العقوبات على روسيا قبل أيّ قرار أميركي برفعها.
15 ديسمبر 2025: قمّة قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، والتي ستركّز، في حال نجاح تمرير «تجميد الأصول» هذا الأسبوع، على الشقّ الثاني، أي الموافقة النهائية على القرض المالي لكييف (90 مليار يورو) بضمان تلك الأصول.
25 ديسمبر 2025: الموعد المستهدف لـ«صفقة الميلاد»؛ حيث يضغط البيت الأبيض للتوصّل إلى صيغة «هدنة» لوقف إطلاق النار أو اتّفاق إطاري يتمّ الإعلان عنه تزامناً مع العيد.
المقالة تعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
















Discussion about this post