تجد السياسة الخارجية التركية اليوم نفسها في خضم أعمق التوترات الجيوسياسية وضغوط الرأي العام المتزايدة داخلياً وخارجياً في السنوات الأخيرة. العلاقات التركية-الإسرائيلية هي المثال الأبرز على هذا التعقيد: فمن ناحية، تقدّم أنقرة دعماً ديبلوماسياً قوياً وانتقادات لاذعة على مستوى الخطاب للقضية الفلسطينية. ومن ناحية أخرى، فإنّ التناقض بين «القول والفعل»، بسبب المصالح الاقتصادية والاستراتيجية، يدفع أنقرة إلى طريق مسدود ويجبرها في الوقت ذاته على اتخاذ خيار.
يرى محلّلون أنّ الخطاب الذي يرفعه الرئيس إردوغان مراراً وتكراراً هو «خطاب شعبوي» يهدف إلى ترسيخ قاعدته السياسية الداخلية واكتساب النفوذ في الرأي العام العربي/الإسلامي. ومع ذلك، لم تتجاوز كلفة هذا الخطاب المصالح الاقتصادية غير الحيوية على الإطلاق. وأعني بالمصالح الاقتصادية غير الحيوية أن التجارة التركية مع إسرائيل لا تتضمّن منتجات ذات خصائص تكنولوجية عالية جداً أو منتجات لا يمكن الاستغناء عنها بالنسبة إلى أنقرة. بعبارة أخرى، حتى لو قطعت تركيا تجارتها بالكامل مع إسرائيل، فإنّ الضرر الناجم عن ذلك لن يتجاوز 1-2 مليار دولار، وهو هيكل يمكن تعويضه على المدى القصير.
في هذا السياق، أشار السفير الأميركي لدى أنقرة توم برّاك، في تصريح لـ«بلومبيرغ»، إلى أنّ الخطاب العنيف المستمرّ بين تركيا وإسرائيل لن يحدّد مستقبل العلاقات. ووصف تصريحات إردوغان ونتنياهو بأنها انتقادات تظلّ على المستوى «الخطابي» فقط.
مبررات استمرار التجارة
لقد سبق واختلق المسؤولون الأتراك ذرائع واهية وغريبة لاستمرار العلاقات التجارية مع إسرائيل، رغم ضغوط الشعب التركي بينما تستمرّ الإبادة الجماعية في غزة. إنّ النظر إلى سذاجة هذه الذرائع يجعلنا نعتقد أنّ عدم قدرة أنقرة على التخلّي عن علاقاتها مع الصهاينة يرتكز على سبب آخر أكثر جوهرية وعمقاً من المبرّرات المعلنة. وقد استمرّ هذا الخط البراغماتي حتى عندما داهمت قوات الاحتلال الإسرائيلي سفينة مرمرة الزرقاء واستشهد عدد من النشطاء الأتراك. لهذا السبب، يمكننا القول إنّ سياسات تركيا تجاه إسرائيل لا تتطوّر ضمن إطار المعايير الأخلاقية أو القانون الدولي، بل ضمن دائرة يمكن صياغتها على أنها عدم إثارة غضب الولايات المتحدة وعدم جلب سخطها.
صرّح مسؤولو حزب «العدالة والتنمية»، في ما يتعلّق بالعلاقات التركية-الإسرائيلية، بأن «تركيا لا يمكنها المشاركة في عملية إعادة الإعمار في غزة في سيناريو عدم وجود علاقات مع إسرائيل»، وبذلك قدّموا تصريحات تثير ردود فعل غاضبة من قاعدتهم ومن فئات واسعة من الجمهور، حيث أعطوا الأولوية للمصالح الاقتصادية بدلاً من اتخاذ موقف مبدئي.
وفي هذا السياق، استخدم مسؤولو «العدالة والتنمية»، وخاصة نائب رئيس الحزب للشؤون الاقتصادية نهاد زيبكجي، عبارات واضحة تدعو إلى ضرورة الاستمرار الحذر للعلاقات التجارية بدلاً من قطعها بالكامل، رغم الضغط الشعبي الموجّه ضد إسرائيل. أكد زيبكجي في أحاديثه على أولوية الوضع الإنساني، لكنه دافع عن ضرورة تقييم العلاقات التجارية بمعزل عن هذا الوضع: «موافقون! نحن ندين بكراهية مجزرة الأطفال التي ترتكبها إسرائيل بحق المسلمين.
ولكن من ناحية أخرى، إسرائيل هي دولة لدينا معها اتفاقية تجارة حرة في ما يتعلّق بجوانب التجارة التي لا تضرّ أحداً». وبنى زيبكجي حجته الأساسية للدفاع عن التجارة على أساس الميزان التجاري الخارجي الذي يصب في صالح تركيا، قائلاً: «إسرائيل هي دولة لدينا معها اتفاقية تجارة حرة. هي دولة نبيع لها 6 وحدات ونشتري منها وحدة واحدة. أعتقد أنه يجب أن نكون أكثر حساسية تجاه هذا الأمر».
مفاعيل الهجمات على إيران
دفعت الهجمات التي شنّتها الولايات المتحدة وإسرائيل على العمق الداخلي لإيران وأهداف القوى الحليفة، في عامي 2024-2025، بالإضافة إلى عدم الاستقرار الإقليمي، طهرانَ إلى موقع أكثر حذراً في السياسة الإقليمية. إنّ ما واجهه نظام بشار الأسد في سوريا نهاية عام 2024، ووقوع حزب الله في لبنان تحت الضغط، وتقييد مجال المناورة في غزة، أدّت إلى اهتزاز تماسك «محور المقاومة». هذا الوضع خفف إلى حد ما الضغط الإقليمي الذي كان يمكن أن يتشكّل على تركيا، ويبدو أنه فتح مساحة لأنقرة في الوقت الذي خلق فيه مخاطر.
يصف بعض المحللين الوضع بالقول «إنّ الضربة التي وُجّهت إلى العلاقات التركية-الإسرائيلية أصبحت حالة لا يمكن التراجع عنها بعد 7 أكتوبر»، إلا أنّ هذا التفسير ينبع من عدم الفهم الكامل لخطّ أنقرة الذي ينتج باستمرار سياسات براغماتية.
بالطبع، التوتّر مع إسرائيل ليس مقتصراً على القضية الفلسطينية فقط؛ الصراعات على النفوذ وتضارب المصالح في عناوين مثل سوريا، شرق المتوسط، والعلاقات مع الولايات المتحدة، تهدّد المصالح الوطنية والنفوذ الإقليمي لتركيا بتهديدات أكبر من قضية غزة والإبادة الجماعية، ومع ذلك، فليس من المرجّح أن تحاول تركيا، وهي عضو في «الناتو» ولا ترغب أبداً في مواجهة واشنطن، الدخول في صراع مباشر مع إسرائيل أو اتخاذ خطوة في هذا الاتجاه. لكن إذا اختارت إسرائيل التصعيد، وهاجمت القواعد التركية في سوريا على وجه الخصوص، فإنّ الخطر المنخفض الاحتمال لهذا الصراع سيسجل ارتفاعاً سريعاً بلا شك.
إنّ أكبر دليل على أنّ إسرائيل بدأت تنظر إلى تركيا كمنافس إقليمي متزايد، هو التصريحات التي أدلى بها الإسرائيليون لوسائل الإعلام حول حركة الأموال حيث أشاروا إليها كدليل على أن أموال إيران وصلت إلى حماس عبر تركيا. وفقاً لما نشر المتحدّث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي باللغة العربية، أفيخاي أدرعي، على حسابه في منصة «إكس»، يزعم الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن الداخلي (الشين بيت)، وجود دور تركي في حركة الأموال هذه بالاستناد إلى معلومات مستمدة من مراسلات داخلية لحماس.
ادّعى أدرعي أن مشغلي تحويل الأموال في غزة استخدموا البنية التحتية المالية التركية لنقل مبالغ ضخمة من الأموال إلى حماس، وأن الشبكة المذكورة تعمل «بالتعاون الكامل» مع إيران وتضمن تحويل مئات الملايين من الدولارات إلى حماس وقادتها. ونشر الجيش الإسرائيلي يوم الأحد بعض الوثائق التي قال إنها تعود للشبكة السرّية المذكورة، مشاركاً أمثلة على معاملات تصل قيمتها إلى مئات الآلاف من الدولارات في المرة الواحدة.
قطع العلاقات والأهداف الإقليمية
أحد الأهداف الطويلة الأمد لتركيا في سياستها الخارجية هو أن تكون قوة إقليمية ووسيطاً/ضامناً موثوقاً. لكن مستوى العلاقات مع إسرائيل يحدّد حدود هذا الدور.
وفقاً لتحليلات «مجموعة الأزمات الدولية»، هناك حاجة إلى جهات ذات تأثير فعّال على الأرض لإدارة مرحلة ما بعد الصراع ولكنها ليست طرفاً مباشراً فيه. تركيا، بفضل قربها الجغرافي، وقدرتها على تقديم المساعدات الإنسانية، وعلاقاتها مع حماس، هي فاعل رئيسي في هذا الدور. وفي هذا الصدد، تلفت الدكتوره إلكيم أوكيار الانتباه إلى علاقات أنقرة مع الولايات المتحدة، معلّقة: «في كل هذا، لا يمكن لتركيا أن تتخذ موقفاً خارج الخط الأميركي-الإسرائيلي سواء أرادت أم لم ترد، ونتنياهو يدرك ذلك». هذا الوضع يظهر الحدود التي يحدّدها النظام الدولي لمدى إمكانية تقدّم تركيا في العمل.
خاتمة
لا تعد العلاقات التركية-الإسرائيلية بـ«التطبيع السريع» ولا بـ«القطيعة الكاملة». يستند الوضع الطبيعي الجديد إلى «الغموض المحسوب». إنّ طريقة إدارة تركيا لهذه المعادلة الصعبة هي خيار براغماتي: الحفاظ على الخطاب السياسي على مستوى عالٍ وانتقادات شديدة ظاهرياً لامتصاص غضب الرأي العام؛ وفي الوقت نفسه، إبقاء القنوات الاقتصادية والاستخباراتية، التي تعتبر عملاً استراتيجياً، مفتوحة والاستثمار في دورها المستقبلي.
ورغم النظرة المتشائمة لاحتمال تحسّن العلاقات بين البلدين في ظلّ هذه الظروف، فإنه يبدو ممكناً أن تعود العلاقات إلى سابق عهدها، خاصّة في حال فقدان نتنياهو للسلطة. بل وحتى إذا احتفظ نتنياهو بالسلطة، فإنّ احتمال قيام أنقرة بتصحيح علاقاتها مع تل أبيب وإعادة علاقاتها الديبلوماسية إلى سابق عهدها ليس ضئيلاً على الإطلاق.
* كاتب تركي
المصدر: جريدة الأخبار اللبنانية

















Discussion about this post